المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية

‭+966557025231‬

waqftaiba@gmail.com

أَوَّلًا: الوَقْفُ لُغَةً: أصل الوقف: الحبس والمنع، مصدر وقف، والجمع أوقاف، يُقال: وقفت الدَّار وقفًا حبستها في سبيل الله (1)

تعريف الوقف "هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة"(2)

وهو مقتبس من حديث رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – عندما قال لعمر بن الخطَّاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: "احبس أصلها، وسبل ثمرتها"(3)

الحبس هو إمساك العين الموقوفة، فإذا كانت العين الموقوفة بيتاً مثلاً فإنه يحبس ويمسك ولا يكون ملكاً لشخص معين، وتسبل المنفعة بأن تكون عائدات ومنافع الموقوف للمصارف التي عينها الواقف.

أَنْوَاعُ الوَقْفِ بِاعْتِبَارِ الغَرَضِ مِنْهُ:

1- الوَقْفُ الخَيْرِيُّ: "هو ما كان ابتداءً على جهةٍ من جهات البرِّ والخير الَّتي لا تنقطع، وهو الَّذي يقوم على حبس عين معيَّنة على ألَّا تكون ملكًا لأحد من النَّاس، وجعلها، وريعها لجهة من جهات البرِّ؛ لتعمَّ جميع المسلمين، فيدخل في هذا الوقف الفقراء، والمساكين، واليتامى، وبناء المساجد، والمدارس، والمشافي، وكلُّ ما يحقِّق الخير لعامَّة المسلمين" (4).

2- الوَقْفُ الأَهْلِيُّ، أَوِ الذّرِّيُّ: وهو "ما جعل استحقاق الريع فيه للواقف نفسه، أو لغيره من الأشخاص المعيَّنين بالذَّات أو بالوصف، سواء كانوا من الأقارب، أو من غيرهم، وذلك بأن يقول: وقفت أرضي على نفسي مدَّة حياتي، ثُمَّ على أولادي بعد وفاتي"(5)

ويتَّضح أنَّ مدار الفرق بين الوقف الخيريِّ، والذرِّيِّ هو الجهة الَّتي يتمُّ الوقف عليها، فإن كانت جهة الوقف عامَّة؛ كان الوقف خيريًّا، وإن كانت جهة الوقف خاصَّة بأهله، أو أقاربه، أو غيرهم؛ كان الوقف أهليًّا، أو ذرِّيًّا.

الأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الوَقْفِ:

أَوَّلًا: الأَدِلَّةُ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ: عموم الآيات الَّتي تأمر بالإنفاق في أوجه الخير، ومنها:

1- قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [سورة آل عمران: 92].

ووجه الدِّلالة من الآية: ما رُوِيَ عن إسحاقَ بْنِ عبد الله عن أبي طلحة: أنَّه سمع أنس بن مالك – رضي الله عنه – يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالَا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله– صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيِّب، قال أنس: فلمَّا أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [سورة آل عمران: 92]؛ قام أبو طلحة إلى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [سورة آل عمران: 92]، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنَّها صدقة لله، أرجو برَّها، وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنِّي أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أَفْعَلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمِّه"(6)

2- وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254].

3- وقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110].

4- وقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17].

ووجه الاستدلال من جميع هذه الآيات:

"أنَّ فيها دعوةً للإنفاق في أوجه الخير، والبرِّ، وتحذير مِنْ شحِّ النَّفس الأمَّارة بالسُّوء، وتنبيه للمسلمين بأهمِّيَّة بذل المال في الدُّنيا قبل أن يأتي يوم القيامة؛ فيتحسَّرون على ما فاتهم من خير عميم، ومن أعظم أبواب الخير والبرِّ: الوقف على جهات الخير؛ ابتغاء مرضات الله تعالى، واستجابة للتَّوجيه الرَّبَّانيِّ الحكيم؛ لأنَّ الحياة إلى موتٍ، والوجود فيها إلى عدم، والبقاء إلى فناء" (7).

ثَانِيًا: الأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(8)

قال النَّوويُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "وفيه دلالة على صحَّة الوقف، وعظيم ثوابه، فالصَّدقة الجارية هي الوقف" (9).

2- عن أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – أنَّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – قال: "مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِيمَانًا بِاللهِ، وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ؛ فَإِنَّ شَبَعَهُ، وَرِيَّهُ، وَرَوَثَهُ، وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (10).

3- عن أنس – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – عنه قال: لما قَدِمَ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – المدينة، وأمر ببناء المسجد قال: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُم هَذَا"، قَالُوا: لَا وَاللهِ لَانَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ" (11).

ثَالِثًا: الإِجْمَاعُ:

ورد عن الصَّحابة -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم- ما يدلُّ على اتِّفاقهم على مشروعيَّة الوقف، حتَّى إنَّهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- سارعوا إلى الوقف؛ رغبةً في الثَّواب العظيم من الله تعالى، قال الشَّافعيُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "بلغني أنَّ ثمانين صحابيًّا من الأنصار تصدَّقوا بصدقات محرمات".

وكان الشَّافعيُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – يُسمِّي الأوقاف: الصَّدقات المحرمات (12).

ويقصد الشَّافعيُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – بالمحرمات، أي: أنَّه يحرم بيعها، والله أعلم.

وعندما كتب عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – صدقته في خلافته –أي وقفه- دعا نفرًا من المهاجرين والأنصار فأحضرهم ذلك، وأشهدهم عليه؛ فانتشر خبرها، قال جابر: "فما أعلم أحدًا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلَّا حبس مالًا من ماله، صدقةً مؤبَّدةً لا تشترى أبدًا، ولا توهب، ولا تورث" (13).

وقد ذكر أصحاب السير والحديث وغيرهم أن كل من كان له مال من الصحابة رضي الله عنهم وقف وقفًا، سواء كان وقفًا ذريًا، أم خيريًا.(14)

قال الخصَّاف: «رُويَ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حبس رباعًا له كانت بمكة وتركها، فلا يعلم أنها ورثت عنه، ولكن يسكنها من حضر من ولده وولد ولده ونسله بمكة، ولم يتوارثوها»(15)

وبما أن الموقع عنوانه (وقف طيبة للقرض الحسن) فلا يفوتني أن أشير إلى وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه الشهير العظيم في طيبة الطيبة التي أوقفها منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زالت باقية إلى اليوم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام فقد قال النبي ﷺ: (من يشترى بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين _ أي واحد من دلاء المسلمين واحد منهم يشتري البئر ويوقفها ويشرب منها مثلما يشرب بقية المسلمين لا يتميز عليهم بشيء، _ "فاشتراها عثمان -رضي الله عنه-) (16)

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الوَقْفِ:

شرع الله – سُبْحَانَهُ – الوقف لعباده؛ لما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم، فالقرآن والسُّنَّة قد اشتملا على ما يصلح العباد في العاجل والآجل، وعلى ما يقوِّي أواصر المحبَّة والتَّلاحم، وينشر التَّكافل والتَّعاون، ومن ذلك تشريع نظام الوقف في الإسلام، هذا النِّظام الفريد في أحكامه الَّذي جاء محقِّقًا لمصالحَ كثيرةٍ، وحكم عظيمة، منها (17) :

1- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا مات فقد انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها الصدقة الجارية.

ففي الوقف فرصة للمسلم باستمرار عمله بعد موته، وإدخال الفرح عليه ونيل الأجر وهو في قبره بسبب هذا الوقف الذي أوقفه.

2- أن في الوقف قيام مصالح الدنيا والآخرة، وضمان استمراريتها فكثير من المساجد ونفقاتها وما يلزم لها من نظافة ورواتب للإمام والمؤذن قائمة من أموال الأوقاف.

وكذلك الكثير من المناشط الدعوية وكفالة الأيتام وبناء المستشفيات للفقراء والمحتاجين وسقيا الماء وغير ذلك من أبواب البر والخير هي قائمة على أموال الأوقاف.

3- أن في الوقف إصلاح للمجتمع وإظهار التلاحم بين المسلمين بين فقيرهم وغنيهم، ضعيفهم وقويهم، كبيرهم وصغيرهم، فيشعر الفقير بالأمن المالي الذي يأتيه من هذه الأوقاف، فتطمئن نفسه ويشعر باخوة الدين، ويدعوه هذا إلى محبة إخوانه من ذوي اليسار الموقفين لهذه الأوقاف.

4- أن الوقف نظام إسلامي متميز مستمد من الكتاب والسنة والإجماع، يضمن تكافل وترابط أفراد المجتمع المسلم، وإشاعة روح التعاون بين أفراده.

5- أن في الأوقاف دعم قوة المسلمين وإظهار قوتهم ضد أعدائهم، حيث يوصي بعض الموقفين أن تكون صدقاتهم في سبيل الله وما يحتاجه المسلمون من سلاح وعتاد وآلات حرب وغير ذلك فتبقى دولة الإسلام مهيبة الجانب عزيزة القوة.

_________________________

(1)انظر: التَّعريفات، عليُّ بن مُحَمَّد الجرجانيُّ، دار الكتاب العربيِّ، بيروت، ط2، 1413هـ، ص328، والمصباح المنير في غريب الشَّرح الكبير، أحمد بن مُحَمَّد الفيُّومي، وزارة المعارف المصريَّة، القاهرة، ط1، 1324هـ، (2 /307)

(٢)المغني، لابن قدامة المقدسيِّ، (5 /348

(٣) صحيح ابن حبَّان، كتاب الوقف، باب ذكر الخبر المدحض قول مَنْ نفى جواز اتِّخاذ الأحباس في سبيل الله، حديث رقم (4899)، تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤط، وقال: إسناده صحيح على شرط البخاريِّ، مؤسَّسة الرِّسالة، بيروت، ط2، 1414هـ

(٤)الوقف في الشَّريعة الإسلاميَّة، وأثره في تنمية المجتمع، مُحَمَّد بن أحمد الصَّالح، ط1، د.ن، 1422هـ، ص53

(٥)الوقف ودوره في التَّنمية، ص42

(٦)صحيح البخاري، كتاب الزَّكاة، باب الزَّكاة على الأقارب، حديث رقم (1461).

(٧)الوقف وأثره على النَّاحيتين الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، مصطفى العرجاوي، بحث مقدَّم لندوة إحياء دور الوقف في الدُّول الإسلاميَّة، د.ط، 1419هـ، ص141

(٨)صحيح مسلم، كتاب الوصيَّة، باب ما يلحق الإنسان من الثَّواب بعد وفاته، حديث رقم (1631).

(٩)صحيح مسلم بشرح النَّوويِّ، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، ط2، 1392هـ.

(١٠)صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسِّير، باب من احتبس فرسًا في سبيل الله، حديث رقم (2853).

(١١)صحيح البخاريِّ، كتاب الصَّلاة، باب وقف الأرض للمسجد، حديث رقم (2774).

(١٢)مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدِّين، مُحَمَّد بن أحمد الخطيب الشِّربيني الشَّافعي (ت 977هـ) دار الكتب العلميَّة، بيروت، ،د.ط،4115هـ (3 /523).

(١٣) المغني، (8 /185).

(١٤)انظر: تاريخ المدينة لابن شبة (1/218، وما بعد

(١٥) أحكام الأوقاف (ص: 8).

(١٦) رواه البخاري تعليقاً: 3/109

(١٧) الوقف الخيريُّ، وأثره في الوقاية من الجريمة، دراسة تأصيليَّة، ص28-31 باختصار.

Top